أنيسة أشقر: ذَهبٌ أسْوَدّ

لأوّل مرة نقدّم في متحف الحضارات الإسلاميّة والمشرق معرضًا نكرّسه كله لأعمال فنّانة معاصرة، الفنّانة أنيسة أشقر. تطرح الفنّانة عبر أعمالها نظرة مُركّبة عن العلاقات الثقافيّة الجارية في منطقتنا، وبهذا فإن معرض “ذهبّ أسودّ” هو استمرار لمُثل التكامليّة الثقافيّة التي نصبو في المتحف إلى تعزيزها، بين الشرق والغرب، بين الماضي والحاضر، وبين الفنّ المعاصر والتراث الإسلاميّ.

أنيسة أشقر فنّانة بارزة في حقل الفنون في البلاد، حصلت على جوائز عديدة وعرضت أعمالها في البلاد وفي العالم. وُلدت في عكا عام 1979 لأسرة مسلمة كبيرة. منذ طفولتها اكتشفت شغفها بالفنّ. عندما كان عمرها تسع سنوات تعلّمت فنّ الخط لدى خطّاط تقليديّ، وهو مجال ذكوريّ في الإسلام، وفي الرابعة عشرة من عمرها توجهت بمبادرتها الذاتيّة إلى دراسة تاريخ الفنون والتصميم في كليّة مار إلياس الثانويّة عبلّين في الجليل الأسفل. ثم واصلت دراسة الفنون في كليّة الفنون في بيت بيرل.

تشارك في المعرض الحالي أعمال من السّنوات الأخيرة إلى جانب أعمال أُنجزت خصيصًا لفضاء المتحف. يبرز من بين هذه الأعمال لوحتان كبيرتان هما صورة شخصيّة (بورتريه) للفنّانة وكتابة عربيّة على وجهها. الكتابة اليوميّة لكلمة أو جملة عربيّة على وجهها تًميّز أعمال وهويّة أنيسة أشقر منذ نحو عشرين سنة. عبر صورتها الشخصيّة والكتابة على وجهها (في اللوحة الأولى كتبت مقولة عربيّة تقليديّة حول مكانة المرأة، وفي اللوحة الثانية كتبت عبارة هي نقّرحة عن الإنجليزية الدارجة حول العلاقة بين الأكل والشرق الأوسط) تُقدم أشقر ذاتها، كفنّانة وكامرأة عربيّة تتراوح بين التراثيّ والمعاصر، بين الشرق والغرب.

علاوة على اللّوحات التجريديّة والتعبيريّة المشغولة بحركات سكب ورش وجريان الألوان على القماش، أضافت الفنّانة أشقر صحون سيراميك ناعمة، أغراض زخرفيّة تعبّر عن التوّق إلى عوالم بعيدة. الصحون المُلّصقة على القماش، هي بمثابة العين التي تنظر إلى الغرب، وتعكس أيضًا تطوّر التقاليد الفنّيّة، من الرسم الرومنسيّ من فترة الروكوكو، أو الرسومات الواقعيّة للفنّان الإسبانيّ موريللو من القرن السابع عشر، إلى الطباعة والنشر على أواني للاستعمال أو للعرض.

تظهر الأواني في أعمال أخرى معروضة في واجهات العرض: صحون بيضاء ملطخة بالأحمر اللّزج المتخثر ضمن مجموعة “وجبة العشاء”، ومجوعة من الفناجين الفاخرة التي “عولجت” من قبل الفنّانة عن طريق الرش باللّونين الأحمر والذهبيّ، والتي تثير إيحاءات بالوفرة والدم أيضًا. مجموعة من أواني الخزف الزرقاء من دلفت في هولندا، ملصقة على بورتريهات كبيرة الحجم، حظيت بمعالجة مماثلة. تجمع أنيسة أشقر هذه الأواني بدافع التقدير لتراثها الثقافيّ والجماليّ وتستخدمها كمسطح لأعمال الرّسم، وهي تموّه بذلك المظهر المتكامل والأصيل، وتحوّلها، شيئًا فشيئًا، إلى عمل فنّيّ خاص بها، وتحوّل عملها الفنّيّ إلى جزء من تلك التقاليد.

مُثل الرباط الزوجيّ والعلاقات الأسريّة هي من الموضوعات المتواصلة في أعمال أنيسة أشقر، والتي تجد تعبيرها في المعرض الحاليّ عن طريق بعض الرسومات على الصحون، وعبر مجموعة “الأهل” بشكل خاص، حيث جمعت بين صور من ألبومات العائلة مع رسومات تجريديّة ذهبيّة. يتجسد هذا الربط بين التجريد والقصصيّ أو الكلاميّ في سلسلة “الضمائر باللّغة العربيّة”، حيث تتخذ الكلمات هيئة شخصيّات، وتشير الكتابة إلى هويّتها اللّسانيّة: هي، هو، أنتَ، أنتِ وغيرها. وُضعت اللوحات فوق كثبان الرمل التي بنتها الفنّانة في فضاء المتحف، إشارة إلى جذورها في مدينة عكا الساكنة على شاطئ البحر.

تستحضر الفنّانة في عملها “ذهبّ أسودّ” ذكرياتها من عكا وجامع الجّزار، العمل المُموضع في مركز القاعة، والمُعلّق تحت قبة على غرار المصابيح المُتدليّة في المساجد العثمانيّة. عن طريق تغطية حلقات المصباح بالتمر – غذاء الجسد المرتبط بالتراث العربيّ الإسلاميّ – وبأوراق ذهبيّة، كصدى للضوء الإلهيّ – غذاء الروح، تمزج أشقر هنا أيضًا ما بين الجسديّ والروحانيّ، الثمين والشعبيّ، الحاجة الأساسيّة والتطلّع إلى التسامي.

الأصوات المحيطة بالفضاء هي تسجيلات صوتيّة من خمسة أجزاء أنتجها الموسيقار ومهندس الصوت أيان ريختر خصيصًا لهذا المعرض، بإيحاء من فضاء المسجد وأعمال الفنّانة. ثلاثة منها مُلحّنة، وتشمل تسجيل صوتيّ لمحادثة بين أنيسة ووالدها حول صور من ألبومات العائلة، وجزءان هما عبارة عن تسجيل تاريخيّ، نوع من العمل الموسيقيّ الناجز: الأول هو معزوفة موسيقيّة تركيّة كلاسيكيّة، والجزء الثاني أغنية حب شرق أوسطيّة.

تقول أنيسة أشقر: “مدفوعة أنا بالعواطف. هذه تدفعني منذ سنين كفنّانة وكإنسانة؛ بين ألم وحزن، وفرح وحبّ، بين أمل ووفرة، كلّ هذه معًا. أنا بوصفي فنّانة لست هوائيّة محلّقة، أحاول أن أكون دقيقة جدًّا، وأن أكون في الوقت ذاته في حرّيّة مطلقة. الفنّ أسمى من الحياة الاعتياديّة. وأنا آتي بالفنّ إلى ما هو يوميّ”.